الاثنين، 30 أبريل 2012

البخلاء والحب

مازلتُ أتذكرُتلكَ القِصَة الحقيقية التي قَرَأتُها والتي تَمَّ تَمثِيلِها وعَرْضها في دُورِ السينما،  قِصةُ أَحَد الأزواج الذي عَلِمَ مِنْ طبيبِ زَوْجَتهِ أنها مُصابة بِمَرضٍ عُضال وإنها سَوْفَ تعيشُ لمدةِ سنةٍ واحدةٍ فَقَطْ ، حينها لم تكن الزوجة تعلم عَنْ ذلك ، فَقَدْ حَرَصَ الزوجُ على تَكَتُم الموضوع ، تَبَدَلَ الزوجُ تبدلاً رهيباً ، فأصبحَ الزوج الرومانسي الرائع، الذي يَفْتَتَحُ نَهارهُ بِقُبلةٍ على جَبِينِ زَوْجَته، ويَخْتَتَمُ لَيْلَتهِ بِقُبلةٍ على يَديها، أَصبَحَ لِسانهُ معسولاً، فَلا تَكادُ تخلوا عبارة  من "حبيبتي " أو " يا حياتي" أو ماشابهَ ذلك مِنْ كَلِماتِ الحُبِ والوِداد والرَحمة. كانَ يَمْنَحُها ما كانَتْ تَتَمَنى طوالَ حَياتِها مِنْ هَدايا، وكَانَ يَتَفَنَنُ فِي مُفاجَأتِها وتَقديم الهدايا لها. حَتى مَرَّ العام ، وذهبا إلى الطبيب كمراجعة عادية ليُصدم الطبيب أنها تشافت مِنْ المَرض تماماً! حينها قُلتُ في نَفْسِي :صَدَقَ مَنْ قال أن الأمراضَ العضوية هي أصلها نفسية.عَزِيزِي الزوج، إن كُنتَ تَملكُ تِلكَ المَواهِب كُلِها فِي إظهار المَشاعِر لِزوجَتِك ، والفَن العَظيم في تَقدِيم الهدايا وصِياغة العِبارات والقُبَل، لِمَ بَخَلْتَ عليها طِيلةَ أيام زَواجكم التي مَضَتْ؟، ما فَعَلْتَ ذلكَ إلا حِينَما أدرَكْتَ أنَها مُغادِرَة دُونَ رَجعة. فأيُ بُخلٍ هذا؟ وأيُ نوعٍ مِنْ البُخَلاءِ أَنْت؟
حَكَتْ لي صَدِيقَة سُعودية مَرّة ،والتي قَدّرَ الرحمن أَن أتَعَرفَ عليها فِي رِحاب الحَرم المَكي ، أن زَوج أُخْتها الكُبرى لم يَقُل لها كَلِمة حُب واحدة طَوالَ حَياتِهم الزَوجِية، حَتى لَحظة الوَداع وهَي تَحتَضِرُ مِنْ سَرَطان عَانَت مِنهُ سَنوات عَديدة - حَفِظَ اللهُ الجَميع مِنْ سائرالأسقام- ، صَرّحَ فِيها الزَوج السُعودي بِأنهُ لن ينساها وسَيَبقى يُحِبُها، بَينما كانَت - رحمةُ اللهِ عليها - تَشْتَكِي طَوالَ حَياتِها مِنْ فُتورٍ الارتباط، وجُمُودِ العلاقة وجِدِّيَتِها، ورَغْبَتَها فِي سَماعِ كَلِمَةٍ رَقِيقَة كَما فِي الأفلام ،كَأَن تَسمَع " أُحِبُكِ " فِي نِهايةِ المُكالًمة ، بَدَلاً مِنْ أَن تَسْمَع "طووووووط" حيث كان يُغلقُ السَمّاعة مُباشرةً  بَعدَ أَن يُرَتِلُ عليها الأوامر والنواهي ، دُونَ أن يُكَلِفُ نَفْسَهُ حتى بَأن يَخْتِم المكالمة بِ :"مَعَ السلامة".مازلتُ أتذكرُ مَلامِحَ وقَسَمات صَدِيقَتِي حِينَ يَمَمَتْ وَجْهَهَا نَحْوَ الكَعْبَة وهَي تَبْكِي وتَدعِي لأُخْتِها، التي لَمْ تَرى الراحةَ ولَمْ تَشعرُ بِالسعادةِ فِي كُلِ أَطوارِ حَياتِها. فَلِمَ البُخل فِي البَوْح؟ ولِمَ البُخْل في التَعْبِير، ولِمَ الحِرْص على عَدَم إظهار المشاعر؟ حتى ما إذا تَمّ الإفْصاح يَكُونُ ذلكَ في لحظةِ الانتقال مِنْ الحياةِ الدُنيا إلى الحَياة الأُخرى، ويَعْلَم اللهُ إن كانَت قَدْ اِسْتَطاعَتْ هذهِ الزَوْجَة تَلَقِي تِلْكَ الكَلِمَة وهَي فِي مَرحلة تَحَشْرُج الرُوح! فأيُ بُخلٍ هذا؟ وأيُ نوعٍ مِنْ البُخَلاءِ أَنْت؟  
المُؤلم أن هُناكَ أشخاص في الحياة ، حين يَصيحُ هاتفهم الجَوّال ويكونُ المُتَصل هِي الزوجة/الزوج ، فإن المَلامِح تَتَشَقْلب، ويَرِد بِطريقةٍ فاترة وكَأنَهُ قَد شَرَبَ الحَنْظَلَ المُرّ، ولا داعي أَنْ أذكُرُ لكَ الترحيب الشَدِيد والتَهليل الطويل حين يكون المُتصل صديقاً.. فَكَيْفَ ولِماذا ولِمَ؟ أَوَلَيْسَ الأقرَبُون أولى بالمعروف ، أَوَلَيست المُعاملة الحَسَنة أُولَى دَرَجات المعروف..فأيُ بُخْلٍ هذا؟ وأيُ نَوعٍ مِنْ البُخلاء أنت ؟
أُستاذِي فِي الأَدَب ، رائعٌ جداً ، عَلى مُستَوى عالٍ مِنْ الدِين والخُلُق، يُحِبُ زوجتهِ حُباً جَماً، يَتَفَنَن بِكُلِ الطُرُق في تَعْبِير الحُب لِزَوْجَتهِ ولا يَحُول بَيْنَهُ وبَيْنَ التَغَزُلِ بِها أيُ أمر، بَل ويُبْدِع في ذلك ، بِقصائِدهِ ونَثْره ، وخَوَاطِرهِ ، وحتى كَلماته العامية البسيطة ، ومؤخراً عَلِمْت أنهُ هُوَ صاحب كلمات نشيدة " زوجتي " التي أنشدَها المُنشد "أبو خاطر" والتي انْتَشَرَت انتِشاراً كبيراً، وعَرَفَ هذهِ النشيدة القاصِي والدانِي. ولا عَجَب فكلماتهُ الصادقة لزَوْجَتِهِ تَسْتَحِقُ الانتشار والنَجَاح. حَفِظَ اللهُ أُستاذِي فِداء الجندي ،لَهُوَ الرجل الكريم ، كَريم الأقوال والفِعَال..
الكلماتُ الجميلة الرَقِيقَة ، هَي بِمثابة البَلْسَم الشَافِي، مَهْمَا تَوَتَرَت العِلاقَة ومَهْمَا تَكَالَبَتْ عَليها المَسْؤُولِيات ومَهْمَا عَانَت مِنْ المشاكل المادية. الكلماتُ الحَانِية كَلِماتٌ مجانية، تُجَمْلُ العلاقة وتُبَعْثِرُ آلامها وتُشَتِتُ مَشاكِلها، ناهِيكَ عَنْ الأجرِ العظيم ، فَتلكَ هي الكَلِمَة الطَيِبة التي لا تَتَنافى مَعَ الأديانِ كُلِها والمَذاهِبِ جُلِّها، ولا تُناقِضُ الأخلاق فِي كُلِ بِقاعِ العالم، لها مَفْعُولَها السِحري ، وأَثَرها العَمِيقْ.
يَظُنُ البَعَض ، أَنَّ ذَلك دليلُ قوة ، حِينَ يَكْتُمُ مَشاعرهُ،ويُغَلِفُ فُؤادهُ بِغِلافِ الفُتُور ويَصُونُ لِسانهُ مِنْ كُلِ كَلامٍ لَيّنٍ حَانِي، جاهلاً أنَّ فِي ذلكَ ضَعفٌ شَدِيد وبُخْلٌ عنيف. لَعَلِي مِنْ المُوقِنِين أَنَهُ لَوكانَ الجاحظُ فِي زَمانِنَا لَألَّفَ كِتابهُ البُخَلاء مَرةً أُخرى ، ولَكنهُ فِي هذه المَرّة لَن يَذكُر لنا قَصَص بُخلاء الدَراهِم والدنانِير، وَلكنهُ سَيَذْكُر قَصَص بُخَلاء المَشاعِر، فَهُم أَعْظمُ دُنواً مِنْ بَخيلِ الدرهم والدينار.
اللهم باعِد بَينَنا وبَيْنَ البُخل كُلِه كَمَا باعَدْتَ بَيْنَ المَشْرق والمَغرب.. اللهم آمين..




بقلم: رحاب شريف
@rehabsharif

الاثنين، 23 أبريل 2012

مقال: وَما أَدْراكُم مَنْ مَنصُور؟


"مَنْصُور" أَحَدُ الآسيَويين الذِينَ يَعْمَلُون فِي أَحد البَقالاتِ الصَغِيرة فِي زِقْاقِ المَنْصُورَة بِالدَوْحَة، كُنا نَسْكُنُ بِمَسْكَنٍ بَالقُرب مِنْ بَقالَته، فَكانَ ايُ احتِياجٍ نُرِيد، نَحْصُلُ عَليهِ بِمُنْتَهى السُرعَة ومُنْتَهى الجَوْدَة، إضافة إلى بَسَماتٍ إيجابية "مجانية"، فَكانَ يَبْتَسمُ ابتِسامَةً أكادُ أَجْزُمُ أنها الأكثَر تفرداً وعمقاً بَيْنَ البَسَماتِ أَجْمَع. يَحْفِظُ أسماءَ المُحِيطِينَ جَمِيعاً، بل ويُلَقِبهم بألقاب تَرفعُ معنوياتهم ، فمثلاً يُلقبني ب" مُدير " ويُلقبُ أحدهم ب " أستاذ كبير" و آخر " إنسان واجد زين ". لا يكرر منصور الألقاب ويَحفظُ الوُجوه، وعندما يَراكَ مِنْ بعيد يَرتفعُ صوتهُ وهو يَذْكُرُ اللًقب الذي خَصَصَهُ لَكً ،بِسلامٍ حار وبِبَسمات لو وُزِعَت على أَهلِ الأرضِ لَكَفَتْهُم.
انتقلَ بعضنا بَعد زمنٍ إلى حَيّ آخر بِمَنطقة أُخرى،وتَفاجَأتُ مُنذ فترة وجيزة أن جميعنا مازالَ يَتَرَدَدُ على نَفْسِ البَقّالة ، رَغْمَ أنها تَبعدُ عن المَسكنِ الجديد بعضَ الشيء! ورَغمَ تَواجد البَقّالات بِالقُربِ مِنْ السَكَن الحالِيّ، وعِنْدَما يَصِلُ أحَدُنا إلى البَقالة و"يطق هرن" فَورَ وُصُولهِ لَيَطلب طلباتهِ مِنْ مِقْعَدِهِ بِالسيارة وهُوَ فِي آخر مَراحِل الراحة ، فَيَخْرُج لَهُ آسيوي آخر غير " منصور" يَسْألهُ عَنْ طَلَباتِهِ ،يُجِيبهُ على الفَور "وين منصور؟ ناد لي منصور" ، ظَنَنْتُ أنني الوحيدة في هذا التصرف حتى الأُمس القريب ، إلى أن عَلِمْتُ مِنْ حَدِيثٍ مُتشعب أن الجَميع يَفعَلُون الفِعْلَة نَفْسها.
منصور، ذلكَ الآسيوي البَسِيط ، الذي لا يتجاوز مُرتبهِ ال700 ريال قطري، يبتسمُ الابتسامات المُتَلألئة ، والتي لا تَنُمُ عَنْ ابتسامةِ هُولِيوُود ، وإنما تَنُمُ عَنْ جَمالِ العُمْقِ والرُوح، والتفاؤل والسِعَة ، والبَساطة والإيجابية. عندما أودُ أن أشرع في بَدء طلباتي ،أسألهُ بَعدَ إلقاءِ السلام ، " شلونك منصور؟ " ، يُجِيبُنِي :" أنا واجد واجد واجد زين مُدير ". لَستُ أدري لِمَ يُلقبني مدير! قد تكون النظارة الطبية التي ألبس قد أوحت له بذلك وقد لا تكون، رغمَ أني لَستُ مُدير ولا "بطيخ".
منصور لا يَملكُ حساب في مصرفٍ مُعَين ، ولا يَمْلِكُ سيارة بورش أو بي إم دبليو أو حتى كورلا، وأشك إن كانَ يَملكُ حتى دراجة هوائية مُستخدمة . منصور لا يلبسُ الرولكس المرصعة بالألماس، وقد لا يملك ساعة من أصل. وشهادتهُ ليست بكالوريس أو ماجستير أو يزيد، وأشكُ إن كانَ يَحملُ شهادة الثانوية أو حتى الاعدادية، ولكن منصور.. ومايُدرِيكُم مَنْ منصور ! يَملكُ سلاماً داخلياً فاضَ حتى أغرقَ به جميع مَنْ حوله.

يستغرب من يحادثهُ لِثوانٍ فقط مِنْ بَسماتهِ وإيجابيتهِ وسرعة خدمتهِ وحتى جودتها .. منصور أضافَ إلى الحياة رونقاً وبهجة ، أضافَ إلى عملهِ البسيط قيمة عظيمة ، أضافَ لِجميع عُملائة شحنات إيجابية تُدهشه للوهلةِ الأولى وللوهلةِ الثانية والثالثة، ومابعدها.
ما يُدهشني عندما أسألُ الناس" كيف الحال" ؟ تتفاوت الإجابات في مقاديرها فالبعض يُجيب: "الحمدلله.. ماشي الحال"، وهناك من يجيب ب :Not Bad"" وكأنه سوف يُقْبَرُ بَعْدَ قليل، وهُناكَ فئة تجيب بامتعاض : "في الدنيا" . وهي تُشير بِيَديها وتُلَوِحُ  للأسفل ، وكأنها في عالمٍ أسودٍ مُظلمٍ بل حالكٍ دامس. وهناكَ قلة نادرة جداً تلكَ التي تَبْتَسِمُ إبتسامة غزيرة فَتُجيب : "عال العال والحمدلله". حينَ أسمع الاجابات  السلبية من اُناسٍ مَلَكُوا الدُنيا بينَ أيديهم ولكنهم لم يَمْلِكُوها فِي قُلُوبِهم أَقولُ في خُلْدِي : أينَ أنتم مِنْ منصور الذي ملك الدنيا في قلبه ولم يملك ذرة منها بين يديه.
منذُ فترةٍ بسيطة التَقَيْتُ بإحدى الصديقات ، فإذا بها في حالةِ ضيقٍ وكَدَر فَسَألْتُها مُبادرةً : "سلامات ، عسى ماشر؟" فأجابت وهي ترفع كتفيها تُشيرُ بأنهُ لا شيء.. بعدَ وقتٍ وَجِيز مِنْ سُؤالي أخبَرَتنِي " كُلُ شيءٍ على حالهِ لم يَتَغَير، أنا كما أنا ، مَلِلتُ مِنْ الحياة نفسها.." رغم أنها في رَغدٍ ونَعيم والدُنيا بينَ يَديها تَعُوم، لكِنَّ السعادةُ هاهُنا >> في قَلْبِك ، وبَيْنَ جَنبيك.
قرأتُ في أحدِ الكُتب المُترجمة مُنذ فترةٍ مِنْ الزَمَن ، عِنْدما يَسأَلُكَ أَحَدُهم كَيفَ الحال؟ فَأَجِب على الفَور : لو كُنْتُ أَسْعَدُ مِنْ هذا الحال لَمَلِكتُ الدُنيا ، بِكلماتٍ أُخرى : عال العال والفضلُ لله، فعَلِمْتُ حقاً إنهُ حتى وإن لم تَكُن فِي غايةِ السعادة ، فإنَّ هذهِ الكلمات تُؤكد خُطاكَ على دربِ الامتنان ، فَتَسْتَشعِرُ كُلَّ جميلٍ تَمْلكهُ، فَتكُونُ حِينها مِنَ السُعَداء أُولئكَ الذينَ هُم مُمْتَنِينَ للمَوجُود ، الذينَ لا يَبْكُونَ المَفْقُود،فَيَزِيدُهُمُ اللهُ بِعطاءٍ لا مَحْدُود.
اللهم لَكَ الحَمد حمداً عظيماًعلى جميعِ النِعَم بَسِيطها وعَظِيمها .. ما عَلِمنا مِنْ تِلْكَ النِعَمْ وما لَم نَعْلَم.

رحاب شريف
23 ابريل
@rehabsharif

الأربعاء، 18 أبريل 2012

قصيدة: أَمَلْ





أَليسَ المَمَاتُ مَمَاتَ الأمَلْ
                           وقتلُ النفوسِ قُبيلَ الأجلْ
أليسَ الأنينُ أنينَ الفراق
                          فبئسَ الفراقُ إذا ما استَحَلْ
وبئسَ الذي خانَ عَهْدَ الوِصالْ
                           فَلا صانَ عهداً وَلا قَدْ وَصَلْ
ومَاحِيلةُ الصَبّ كَيفَ يعيشُ؟
                            وكَيفَ يَعيشُ بِهَجْرٍ جَزَلْ؟
فَمازالَ  ذاكَ الهَوى لَمْ يَزَلْ
                            بِبَسْمِ الثُغُورِ وَدَمْع المُقَلْ
يَصِيحُ بِصمتٍ ألا مِنْ مُجِيب
                             فكُلي اشْتِياقٌ وكُلِي أَمَلْ

          

رحاب شريف
15 ابريل


                              "بحر: المتقارب "

الاثنين، 16 أبريل 2012

مقال: "ولكنها قبيحة!"


دَخلَ رَجلٌ مكتبَ البريد، فرأى طابوراً من الناس، أخذَ يراقبُ الأجواء ليُدرك سببَ الزحام، فلاحظَ أنَّ موظفَ البريدِ متجهمٌ عابس ، يعملُ ببطىءٍ وملل ، فأدركَ سبب بطىء حركة الطابور نحو الشباك.
وقفَ الرجلُ في الطابور حتى وصلَ إلى الشباك، ليعطي موظف البريد الظرف المراد إرساله مع دراهم معدودة قيمة الطوابع ، فتأملَ الرجلُ شكلَ موظف البريد ، فأعجبه ُشعرهُ الأسود الكثيف ، فأخبرهُ : " ليتني امتلكُ مثلَ شعركَ الأسود الناعم اللامع "، تَغيرت حينها ملامح موظف البريد، وأسعدهُ الثناء ، حتى كادَ أن يطير دونَ جناحين، تَعَمَدَ الرجلُ البقاءَ في مكتبِ البريد ليُراقب الأجواء ، فلاحظ أَنَّ الطابور غدا مسرعاً وأن البطىء والملل الشديدين عند موظف البريد انقلبا إلى ابتسامة وهِمّة. فَسُبحان مَنْ قَلَبَ الملل إلى هِمّة والعبوس إلى بسمة!
كانت هذه القصة من القصص التي قرأتها منذ ستة عشر عاماً في كتاب "كيف تكسب الاصدقاء وتؤثر في الناس" لديل كارنيغي، حيث كنتُ حينها بالصفِ الخامس الابتدائي، بادىء عهدي بالقراءة.
أَضحَتْ هذهِ القصة قانون أساسي في شخصيتي، أبحثُ عن كل شيء جميل لأمتَدِحَه ، فأُسْعِدُ صاحبه.
من المُضحك أنني باشرتُ في تطبيق القانون في ذلكَ العمر، حينها كنتُ في بيت جَدَتي ، ذلكَ البيت الذي لا يَخلُوا أبداً من الضيوف، وكانت هناكَ امرأة نُسميها "خالة فلانة"، احتراماً لعُمرها ، بحثتُ عن شيء جميل بها فلم أجد غير شَعرها الناعم والذي لم يكن لامعاً أو حتى كثيفاً ،كما في قصة البريد بكتاب كارنيغي، فأخبرتُها ببراءة وإيجابية : "شعرج ناعم خالة فلانة ". فوضعت يدها على شعرها وصَرَخت بغضب: "قولي ماشاء الله لا تعطيني عين ".فقلتُ في نفسي :"الحمدلله والشكر"، ووضعتها في القائمة السوداء مباشرة.
حينها كنتُ طفلة، لا اقرأ الناس ولا اختار الألفاظ ، وأحاولُ التأثير باستخدام طريقة "نَسْخ لَصْق"، فلو تَكَرَرَ الموقف اليوم معي وَ وَدِدْتُ أن أُسْعد امرأة كَتلك، بِمديحٍ صادق لَكانت العبارة: "ماشاء الله خالتي شعرج ناعم، تبارَكَ الرحمن". فهناك عقليات تُؤمن بأن كلَ خدش يُصيبهن مَنْ العَيْن، دَون استثناء. حَفِظَنا اللهُ مِن الخُدوش العقلية.
عندما كنتُ في الجامعة ذهبتُ مع احدى صديقاتي إلى أحد الأفلام السينمائية، وعندما انتهى عرض الفيلم دخلتُ أنا وصديقتي الخلاء "كرمكم الله" لتضبيط وضعية "الشيلة" ، وفي هذا المكان نرى أشكال البنات كُلها وألوانهم. فَبًهرًني وجهٌ كالقمر، فتاة يصرخُ الجمالُ من وجنتيها، ذاتَ شعر كثيف وتقطيعة رائعة،"مصممة آنا على سالفة الشَعَر". فقلتُ لها دون تَصَنُع أو ترتيبٍ للكلام:"ماشاء الله، شعركِ جميل جداً جداً" ، فتلونَ خدها الأبيض بلون الخجل وقالت لي بسعادة عارمة : " مشكورة من ذوقج ". ثم هَمِمْتُ بالخروج وأنا أُلاحظ غَضب صديقتي ، ما إن وَطئت قدماي خارجُ المكان فإذا بها تصرخُ في وجهي والشرار يُشعشعُ من عينيها ، " فشلتينا رحاب شفيج متخرعة؟ الحين بتجوف روحها" ،أجبت: "بالعكس كانَ شَعْرُها جميلاً فأبديتُ إعجابي ، كنتُ اُعبرعن ما يجول في خلدي بصوتٍ مسموع ليس إلا"، ونَصحتها بقراءة كتاب كارنيغي". لأسمع منها ما أسمعهُ من غالب الناس : "صج متفرغه".كم ادركتُ جمال هذا القانون،وكم أشعرُ أنني أنشرُ السعادة وانا أُطبقه، فأنا بتطبيقي لهذا القانون لا أكذب ولا أجامل ولا أبالغ أو حتى أتكلف ، ولكني أذكرُ واقعاً جميلاً بصوت مرتفع بدل من أن يكون "سايلنت".
لبثتُ كذلك في كُلِ حِينْ ، حتى في مرضى امتدحُ الممرضة بصدقٍ تام، لأرى الاهتمام تَضاعَف،والعِناية تَكَثَفَت، والإبتسامة ارتَسَمَت. فسبحانَ الله! وكأني أملكُ قلماً أرسمُ به البسمات على وجوهِ الآخرين بكلماتٍ إيجابيةٍ ،بسيطةٍ ،صادقةٍ ومجانية!
أحياناً امتدحُ بعضَ الأشخاص في مغيبهم، فأتفاجأ بالسامع يقُاطعني ب:"ولكنها قبيحة" ليذكرُ ما يُعيبها خَلقا أوخُلقا، مركزاً على الناقص،مُتجاهلا الجميل والحَسَنْ.قلةٌ قليلة تستطيع أن تستمع إلى المديح دون أن تقول :"ولكن" فتذكر الجانب السيء بعد لكن لتُغرب وتُغدق في الذم والهجاء. والقلة التي تكادُ تكون معدومة، تلك التي  تستمعُ لمديح "فلان"  ل"علان" في غيابهِ فتضيفُ إلى مديحِهِ مديحاً آخر.
 جَميعُنا كَالقَمَر، لهُ جانبٌ مُظلم.نستطيع دائما أن نَجد ما يُقال بعد "لكن"، لأن الكمال للفرد الصمد، ولكن!أيُ سلبية وأيُ ابتذال.أما بَلَغَت فينا القدرة التي تُوصلنا أن نَستَبدل كلمة "ولكن" بكلمة :" كذلك" ، فنضيف الى المديحِ مديحاً،وإلى الثناءِ رونقاً ، وإلى الإيجابية نوراً وألقاً وانتعاشاً.
لنأخذ ما صفى من الناس ونترك ماكدر. ولنكن من أهل "كذلك" بالكلمة الطيبة في الحضورِ وَفي المَغِيب، تلكَ الكلمة التي أصلها ثابت وفرعها في السماء.

رحاب شريف
 16ابريل
@rehabsharif

الأربعاء، 11 أبريل 2012

مقال: في الجيب

عندما كنتُ في المدرسةِ الإعدادية ، كانت والدتي تعملُ بجامعةِ البحرين، فَذكرت لي يوماً موقف إحدى الطالبات والتي تَخَرَجَت مِن الثانوية العامة بنسبة 87.6 ، والتي ترغب بالتخصص في مجال معين بالجامعة لكن معدلها لم يسمح لها بالحصولِ على ما تُريد، فالتخصص الذي تريدهُ يتطلب معدلاً يفوقُ ال 90%. فقاطعتُ أمي مُتَعجبة :" كيف تقدر تطيق روحها ومعدلها أقل من 90%"، ردت علي أمي ووجهها قد تلونَ بألوانِ الغضب : "قولي الحمدلله والشكر" وانصرفت وهي تقول : "الله يعلم إيش كانت ظروفها"، وصادفَ أن حَصلتُ - لظروفٍ جَبّارة - على نفس المعدل في الثانوية العامة وبالدقة النسبية نفسها ، رَغم أني عشتُ حياتي المَدرَسية كُلها بإمتياز بل وبتَفوق. لا عَجبَ سيداتي سادتي : فالعيب في الجيب .
خالتي لها حس فكاهي اشتهرت بهِ ، ما تكادُ تَتَكلم إلا وضَحكَ الجميعُ مِمَن حولها، في ذات يوم كانت تقضي فيهِ بعض المشاوير معَ جدتي الحبيبة، وهما معاً ما إن شَرَعَت خالتي في التعليقِ على سياقتي التي لا تُعجبها بتاتاً ، والتي وَصَفَتها بِسياقةِ " المَجانين". وما كادت أن تَنتَهي مَن كَلامِها إلا وصَدَمَت أَحد الأرصِفة ، وتَلتها بعدَ قليلٍ بصدمةٍ أُخرى ، وماوصلوا إلى غايتهم حتى وَصَلت بذلك الصدمات الثلاث. حتى عَلَقت جَدتي بمقولتها المشهورة : "العيب في الجيب".
زَميلتي في العمل عَلَّقَت غيرَ قاصدة على زميلٍ لنا بالعمل بأنهُ صاحب قلبٍ مَيت ، يَنسى كثيراً وقد تَختَلط عليهِ الأُمور، فإذا بها في اليومِ التالي مباشرة تنسى أحد الاجتماعات الهامة حتى تذكرتهُ قبلَ الموعد بقليلٍ جداً، وتَنسى أَنَّ لديها مقابلة شخصية لَدى إحدى المؤسسات الكبرى التعليمية بالدولة ، وتَتَابعت عليها الأمور وتَعَقَدت ، رَغم نِظامها الشديد، ودقتها البالغة وتخطيطها المتناهي .عندما عاودت العمل اخبرتني وزميلنا عن ما جرى لها فَعَلِمْتُ حَتماً أنَّ ذلكَ كله فقط بسبب تعليقها عليه يوم أمس، رَغم أن التعليق لم يكن غيبة بَل كانَ أمامهِ وبحسٍ فكاهي ، ودون قصد أبداً، ولكنهُ في الجيب.
الغريب في الأمر أن هناكَ أحياناً تعليقات تأتي عجباً من أمر ما ، فالفطرة البشرية تَمرُ بقممِ الاستعجاب ، وسحاب الاستنكار ، ولكن العقاب مدفونٌ لا محاله، ما إن تنطق بالحرف حتى يقوم العقاب من قبرهِ كَالجنيّ الأسود. وكَأنَّ القانون أن لا تستنكر أو تستغرب سراً او جهراً ، ولا تغتب أبداً لأن المصيبة ستكون أعظم والعقاب سيكونُ أشد وأشد.
ابن صديقتي الصغير : "الياس" في الصف الأول الابتدائي ، ما إن يَسمَعُني وأمه نَتجاذب أطراف الحديث ويدركُ أن هناكَ تعليقات هنا وهناك حتى يأتي بكامل قوى أحبالهِ الصوتية ليصرخ في وجوهنا : "لا تعيبوا فَتُعابوا ". فَتَتَجَمد ملامحنا خوفاً وندماً. لستُ ادري من أينَ التقط الياس هذه المقولة التي تعني تماما مقولة " العيب في الجيب" ولكن ما أدريهِ حتماً مدى صدق هذه المقولة.
لَعلَّ كل مَن  يقرأ كلماتي يستحضرُ مَوقفاً معيناً مرتبطاً ارتباطاً وثيقاً بالعيب و الجيب، وما إن تتراقص شفتيهِ بذكر تعليق مُعين حتى يَخرجُ العيبُ من الجيبِ مُتجلياً ليهمسُ في أُذُنيك كالشيطان الرجيم :"لا فِرار". حينها وكأن لسان حاله يقول : " ياليت الذي كان لم يكن". فمن الأمثل أن لا نغض الطرف عن " لا تُظهر الشماتة بأخيك، فيعافيهِ اللهُ ويبتليك " أو " من عيّر أخاهُ بذنبٍ لم يمت حتى يعملهُ".
لقد تعلمتُ درس العيب والجيب جيداً، ولكني دفعتُ ثمنهُ باهظاً،  ثمن كَلفني أن أخجل حياتي كُلها من معدل الثانوية العامة.
اللهم اشغلنا باصلاحِ عيوبنا وثبتنا على طاعتك..
اللهم آمين..
رحاب شريف
11 ابريل
@rehabsharif