الاثنين، 15 أكتوبر 2012

رحمةٌ ووفاء!




تُحدثني صديقتي من المملكة العربية السعودية عن قصة إحدى زميلاتها في المصرف: " قصتها قصة غريبة، تزوجت في سن مبكرة  من رجل أحبته حتى اعتبرته زوجا وأبا وأخا وصديقا وزميلا، أحبته حبا عظيما وأنجبت منه أربعة من الأولاد، ربتهم بمهجتها وأمطرت عليهم بالرعاية والأهتمام، واصل زوجها في دراسته وتدرج في منصبه حتى بلغ منصبا عظيما، وحين بلغت هي من العمر الخمس والثلاثين سنة - أي عشرون سنة من العطاء- جاءها زوجها ليخبرها أنه أحب امرأة أخرى ويريد الطلاق منها ليتزوج بتلك، لن أدخل في تفاصيل صدمتها ولكنها في آخر المطاف أخذت تقبل يديه رجاءا كي يتزوج عليها فقد حلل الشرع من الزوجات أربع! ولكنه رفض لأن المرأة التي يريد ترفض أن تكون شريكتها في زوجها، وهذا ما حدث، طلقها وتزوج بتلك، دخلت في مرحلة اكتئاب شديدة ترفض أن ترى الناس وأن تعيش حياتها، وبعد مضي ثلاث سنين من التعب النفسي العنيف،خرجت إلى الدنيا جسدا بلا روح ، حسبي الله ونعم الوكيل"، هزتني قصتها جدا ،سألتُ صديقتي وكيف هي الآن ، فقالت لي: تعيش حياتها فقط وكأنها تعد الأيام حتى يتوفاها الله ، رغم إنها في ريعان شبابها!!

صديقتي الحبيبة، طلقها زوجها ليتزوج من زميلته في العمل لأنهُ أحبها، وهي في سنة أولى زواج! وتحملُ في أحشائها طفله، كانت ستقبل لو أنهُ تزوج عليها قبول الممتعض فهذا الحل أحلى الأمرين ، ولكنه طلقها دون رحمة ووفاء. ناسياً - وهو المُدعي للدين - موقف الرجل الذي ذهب إلى عمر بن الخطاب – رضي الله عنه – يستشيره في طلاق امرأته، فقال له عمر: لا تفعل، فقال: ولكني لا أحبها، فقال له عمر : ويحك ألم تبنى البيوت إلا على الحب؟ فأين الرعاية وأين التذمم وأين الوفاء؟

من المُلام في هذا المقام؟ أنلوم الزوج لأنهُ لم يصن قلباً أحبه، ومهجة منحتهُ العطاءات، فانعدمت عندهُ صفات الوفاء وأراق بسكينه الرحمات كُلها، أم نلوم المرأة الدخيلة التي تشتري سعادتها بدراهم من نار، فتحرق قلب امرأة لا ذنب لها سوى إنها أعطت وأوفت. أم نلوم الاثنين معا؟ ومن منهم يستحق الملامة الأكبر، الزوج، فهو المطالب بالإخلاص والرحمة والوفاء وهو الأجدر بمراعاة مشاعرها من الغريب لانه القريب الحبيب! أم المرأة الدخيلة لأنها من جنسها وتحمل الرقة ذاتها وتعرف تماما ماقد تمرُ به !
من المواقف الجديرة بالذكر: موقف جميل رأيتهُ وأنا عائدة من رحلة قصيرة من البحرين الشقيقة في الإسبوع المنصرم، فحين حطت الطائرة أرض الدوحة كان الركاب ينزلون على سلم الطائرة لنصعد الباص الذي سينقلنا إلى المطار، ونحنُ في عملية النزول لفت انتباهي رجل مسن، يتجاوز الثمانين من عمره، محدودب الظهر، وزوجته التي في نفس المرحلة العمرية معه، ممسك بيدها، ليُعينها على النزول - وهو أحوج منها لمن يُعينه – وفي كل عتبة يخبرها " الدرج هذا متعب، أنتي بخير؟ ألحين بنوصل"، وهي تبتسم ابتسامة العروس وتقول له: " أنا بخير"، وحينما دخلنا الباص أجلسها على الكرسي الوحيد الذي لا يوجد غيره، ثم قام أحد الشباب بالتخلي عن كرسيه ليجلس الرجل الهرم على الكرسي في الطرف الآخر، كان كل دقيقة – دون مغالاة – ينادي زوجته : "حليمة أنتي بخير"، إذ كرسي حليمة "زوجته" في الجهة الآخرى من الباص: لتجيبه حليمة "بخير بخير". وحينما وصل الباص لأرض المطار وضع يده في يدها ثم تابعا خطواتهما واختفا عن أنظاري. كم كنت سعيدة في تلك الليلة وأنا أشاهد "حليمة" وزوجها في حُلّةٍ أبهى من حُلّة العروس والعريس في ليلة زواجهما. مُتكلل زوجها بالرحمة متوشح بالوفاء ناثراً عليها ورود العناية والحب، رددتُ في نفسي "هكذا المودة والرحمة وإلا فلا.." قيل قديما: " الحب المطلق يُطيل العمر".
قرأتُ منذ زمن مقال جميل للكاتب مصطفى محمود - رحمه الله – بعنوان: " الحب لا الرحمة نعم" ، يقول فيه: "الرحمة تحتوي على الحب بالضرورة والحب لا يشتمل على الرحمة، الرحمة أعمق من الحب وأصفى وأطهر،كلنا قادرون على الحب بحكم الجبلة البشرية وقليل منا هم القادرون على الرحمة، ولذلك جاء كتاب الحكمة الأزلية " القرآن" الذي تنزل علينا بالحق يُذكرنا عند الزواج بالرحمة والمودة والسكن، ولم يذكر كلمة واحد عن الحب، محطما بذلك صنم العصر كما حطم أصنام الكعبة من قديم. و ليس في هذه الكلمات مصادرة للحب، أو إلغاء للشهوة و إنما هي توكيد، و بيان بأن ممارسة الحب و الشهوة بدون إطار من الرحمة و المودة و الشرعية هو عبث لابد أن ينتهي إلى الإحباط. و الحيوانات تمارس الحب و الشهوة و تتبادل الغزل. و إنما الإنسان وحده هو الذي امتاز بهذا الإطار من المودة و الرحمة و الرأفة، لأنه هو وحده الذي استطاع أن يستعلي على شهواته؛ فيصوم و هو جائع و يتعفف و هو مشتاق. و الرحمة ليست ضعفا و إنما هي غاية القوة، لأنها استعلاء على الحيوانية و البهيمية و الظلمة الشهوانية.الرحمة هي النور و الشهوة هي النار.و أهل الرحمة هم أهل النور و الصفاء و البهاء، و هم الوجهاء حقا.و القسوة جبن و الرحمة شجاعة.و لا يؤتى الرحمة إلا كل شجاع كريم نبيل والرحماء قليلون وهم أركان الدنيا وأوتادها التي يحفظ بها الله الارض ومن عليها."

نعم الرحماء قليلون وهم أركان الدنيا وأوتادها، اللهم إنا نسألك أن نكون منهم فنَرحم ونُرحم..آمين.


رحاب شريف
@rehabsharif

الثلاثاء، 9 أكتوبر 2012

" مستحيل!"


حين أذهب مع صديقاتي إلى مجمع في عطلة نهاية الاسبوع للاستمتاع بمشاهدة فيلم سينمائي، اسمعهن يتذمرن طوال الطريق خوفاً من أن نتأخر عن موعد الفيلم، فالدنيا زحمة ولن نجد موقف للسيارة، أبتسم في داخلي دون أن أجيب على عباراتهم الساخطة،لأنني على يقين أنني حالما أصل الى البوابة المعنية سأرى سيارة قد خرجت للتو من موقفها لأدخل أنا محلها،وهكذا يحصل دائما!
عندما تخرجتُ من البكالوريس، أعددتُ سيرتي الذاتية وذهبت من صديقتي لتوزيع السيرة في الأماكن التي أتمنى العمل بها، سألتني ونحن في عملية توزيع السير الذاتية: " كم تتمنين أن يكون راتبك؟" فأجبتها: بضعف الراتب الذي يحصل عليه الخريج، فنظرت إلي نظرة المستغرب ثم قالت: "مستحيل!"، أنا أعمل منذ ثلاث سنين ولم يبلغ راتبي ما تطمحين له وأنتي خريجة جديدة العهد. وحين توظفت الوظيفة الأولى لم أندهش أبدا عندما علمتُ من مسؤول الموارد البشرية أن الراتب كان تماما كما تمنيت!
عندما كنتُ صغيرة كنتُ أرى إبنة خالتي "ندى" صديقة حميمة لأخيها "خالد"، فكنت أقدس علاقتهما الجميلة، علاقة الأخوة والصداقة الحميمة التي قلما تتواجد، فتمنيتُ حينها علاقة كتلك مع دعائي لهما بأن تستمر هذه العلاقة الجميلة وتقوى، ولكن ظروف عدة حالت دون تحقق أمنيتي ، منها فارق العمر، حتى مضى الزمن واشتدَّ عود أخي أحمد، وتبلور فكره وتكونت شخصيته، فأصبحنا أقرب قريبين، تفوق علاقتنا الصداقة و الأخوة!
تحدثني أمي عندما كنتُ في المرحلة الثانوية عن نفسها واثنتين من صديقاتها فتقول: كنت مع صديقتيّ "عائشة ومريم" في إحدى الجلسات "البناتية" نتكلم عن زوج المستقبل فتحدثت كل فتاة عن الزوج الذي تتمنى ، فقالت أمي : "أتمنى أن أتزوج رجلا وسيما ، أبيض اللون، ذو لحية سوداء" وقالت عائشة: "أتمنى رجلا ملتزما ، يطبق السنة النبوية" أما مريم فقالت: " أتمنى رجلا غنيا ". تضيف والدتي : لقد حصلت كل واحدة منا على ما تمنت ، فأما أنا فقد تزوجت والدكِ، وأما عائشة فقد تزوجت عمكِ، رجل ملتزم ويحافظ على تطبيق السنة، وأما مريم فقد تزوجت رجلا من أغنياء البلد..!
عمر بن عبد العزيز كان يردد: " إن لي نفسا تواقة ما حققت شيئا إلا تاقت لما هو أعلى منه، تاقت نفسي إلى الزواج من إبنة عمي فاطمة بنت عبد الملك فتزوجتها، ثم تاقت نفسي إلى الامارة فوليتها، وتاقت نفسي إلى الخلافة فنلتها،والآن تاقت نفسي إلى الجنة، فأرجوا أن أكون من أهلها".
منذ زمن شاع صيت قانون كوني أسمه "قانون الجذب" الذي ينص على : "أن الانسان يجذب إليه الاشياء الايجابية أو السلبية". ولعل هذا القانون شرعي الجذور فقد حدثَ المصطفى صلى الله عليه وسلم عن ربه:  "أنا عند ظن عبدي بي فليظن بي ماشاء"، وقد قالها الإمام الماوردي في كتاب "أدب الدين والدنيا": " أن القدر موكل بالمنطق" وفي هذا أيظا قال رسولنا الكريم :" أدعوا الله وأنتم موقنون بالإجابة"، اليقين الشديد يُغير ترتيب الكون بأكمله من حولك فقط لتبلغ أنت مرادك، مهما صعب المنال.

اليقين في تحقق ماتريد، والعمل الدؤوب،والأخذ بالأسباب والدعاء المستمر، يُحقق المستحيل وكأنك صاحب العصا السحرية. تجاربي الجميلة في الحياة تجعلني أغيرُ في قول أبي الطيب المتنبي "ماكلُ ما يتمناهُ المرء يدركهُ .. تأتي الرياح بما لا تشتهي السفن" إلى " بل كل ما يتمناهُ المرءُ يدركهُ .. باجتهادٍ ودعاءٍ وحقبة من الزمن".
رؤيتي في الحياة أرى تحققها كما أرى سطور مقالي هذا، رغم أن العديد يُعلق بأن ما أتمنى مستحيل، ولكني ابتسم في داخلي تماما كما ابتسم حين كان صحبي يسخط  خوفا من أن لا نجد موقف للسيارة في الزحام - مع فارق التشبيه - لأني أعلم بيقينٍ راسخ وظنٍ جميل وعملٍ متواصل أن التحقق قادم مهما طال الزمان، وكأن الشاعر يقولُ على لساني :
وإني لأدعوا الله حتى كأنني .. أرى بجميل الظن مالله صانع
بقوانين ربانية كهذا القانون، يجدر بنا أن نسابق الريح في العمل ، وأن تكون لنا همم تنطح الجبال، ومقاصد عالية علو السحاب. فليس من مانع يحول دون تحقق أمنياتك إلا أنت : ظنك وعملك، فأحسن الأول واجتهد بالآخر.
اللهم وفقنا لخير المقاصد ..آمين


 رحاب شريف
@rehabsharif


الاثنين، 1 أكتوبر 2012

" بقشيش!"



تُعاتبني صديقتي منذ اثنتي عشرة سنة بقولها:" وايد تعطين بقشيش" ،بينما
أجيبها دوما بالجواب نفسه:"صدقة وليس بقشيشا!" ، تلكَ النوايا الصغيرة بخلدنا تصنع الفارق.
هي تعتبر هذا المبلغ البسيط "بقشيشا" وتدفعهُ لأنهُ إحدى حركات " الذوق والتمدن" ، وقد تسميه "برستيج"، وهناك من يعتبر هذا المبلغ "صدقة" لوجه الله.
أحيانا أذهبُ مع بعض الصديقات اللاتي تزيد رواتبهن على مرتبي بأضعاف، فيصادفنا سائل فقير، أجدها تجيب بجفوة:"الله يعطيك" ، دون أدنى جهد للبحث عن " فتات المال" المُلقى بحقيبتها التي يتجاوز سعرها العشرين ألف ريال!، أناديهِ لأمنحهُ بعضاً قليلاً من المال، فتنهرني بشدة لتقول:" يقصون عليج وإنتي تصدقين!؟"، أنتظر حتى يختفي السائل - وجميعنا سائلون-  لأُجيبها:
- "وكيف علمتِ أنهُ محتال؟
-"يبين من شكله!!"
- "ياسبحان الله، أتظنين أنكِ تملكين هذه الفراسة؟ أم أنك تعلمين السر وما يخفى؟"
-"أنا ما أحب أحد ينتهزني".
-" وأنا لا أحب أن أردَّ سائلا، أما بالنسبة عن موضوع الانتهاز فأنا أفترض حسن النية،والأجر واقع في أي حالة".
أذكرُ منذ زمن بعيد حين كنت صغيرة ، طرقت باب جدتي امرأة كبيرة في السن تسألنا من فضل الله، فكانت إحدى القريبات تقولُ لجدتي بصوتٍ مرتفع :"خليها تولي، عندها أكثر منج"، تُسكتها جدتي وهي تضع السبابة على شفتيها تومىء بأن اصمتي حتى لا تسمعكِ، وتهرعُ جدتي كالبرق لتمنحها ماتستطيع.
منذ فترة طويلة قرأتُ مقالاً في أحد كتب الشيخ علي الطنطاوي تحت عنوان:" أحسن كما أحسن الله إليك"، ذيع هذا المقال في عام 1952!
ولكنها الكلمات الصادقة ، يموت صاحبها ويُدفن، وتبقى حية نيّرة أبد الدهر، يقول في مقاله البديع:

"قصة المرأة التي كان ولدها مسافراً، وكانت قد قعدت يوماً تأكل وليس أمامها إلا لقمة إدام وقطعة خبز،فجاء سائل، فمنعت عن فمها وأعطته وباتت جائعة ، فلما جاء ولدها من سفره جعلَ يُحدثها بما رأى وقال: من أعجب ما مرَّ بي أنه لحقني أسد في الطريق، وكنتُ وحدي فهربت منه، فوثب علي وما شعرتُ إلا وقد صرت في فمه،وإذا برجلٍ عليه ثياب بيض يظهر أمامي فيخلصني ويقول: "لقمة بلقمة" ولم أفهم مراده .. فسألتهُ والدتهُ عن وقت الحادثة، وإذا هو في اليوم الذي تصدقت فيه على الفقير،نزعت اللقمة من فمها لتتصدق بها فنزع الله ولدها من فم الاسد".
 ويذكر قصته الشخصية فيقول: " ولا تظنوا أن الذي تعطونهُ يذهب بالمجان، لا والله، إنكم تقبضون الثمن أضعافاً في الدنيا قبل الآخرة، وقد جربت ذلك بنفسي، أنا أعمل وأكسب وأنفق على أهلي منذ أكثر من ثلاثين سنة وليس لي من أبواب الخير والعبادة إلا أني أبذلُ في سبيل الله إن كان في يدي مال، ولم أدخر في عمري شيئاً، وكانت زوجتي تقول لي دائماً :"يارجل، وفر واتخذ لبناتك داراً على الأقل، وأقول:"خليها على الله". أتدرون ماذا كان؟
لقد حسب الله ما أنفقتهُ في سبيلة وادخرهُ لي في بنك الحسنات، الذي يعطي أرباحاً سنويا قدرها سبعون ألفاً في المئة، نعم وهناك زيادات تبلغ ضعف الربح، فأرسل الله لي صديقاً لي سيداً كريماً من أعيان دمشق فأقرضني ثمن الدار،وأرسل أصدقاء آخرين من المتفضلين فبنوا الدار حتى كَمَلَتْ وأنا -والله- لا أعرف من أمرها إلا مايعرفهُ المارة عليها من الطريق، ثم أعان الله برزق حلال لم أكن محتسباً فوفيت ديونها جميعا، ومن شاء ذكرتُ له التفاصيل، وسميتُ لهُ الأسماء".
لقد علمتني والدتي"ليلى" حفظها الله، أن أمنح وأتصدق بما أستطيع لكل سائل، فلا أنظر في وجهه نظرة تمحيص وتدقيق، ولا أتفرس في وجهه كالخبير صاحب الحدس الثاقب، بل أمنحهُ جاعلة نيتي لله عز وجل، ليكون منهاجي " لن أرد سائلا حتى لا يردني الله من بابه حين أسأله".
والله منذ أن اتخذت هذا المنهج ديدني ماوقعتُ في ضيق قط إلا وفرجهُ الله عني، ولا أحتجتُ لشيء إلا جاءني يعدو.

اللهم وفقنا للخير وللخير وفقنا... آمين.  




رحاب شريف
@rehabsharif