كنتُ منذ فترة في حوارٍ مع الكاتب "مصطفى فرحات" ، فَتَشَعَبَ الحديثُ معهُ تحتَ مظلة الثقافة والأدب، حتى طَفقَ يُكلمني عن عَلَمٍ مِنْ أعلامِ الفِكْرِ والأدب " محمد البشير الإبراهيمي"، فقد أخبرني أنهُ ما بَلَغَ التسع سنين مِنْ عُمرهِ حتى كانَ قد حفظَ القرآن مع فهم مفرداته وغريبه.
وكانَ قد حَفِظَ معهُ ألفية ابن مالك، ومعظم الكافية له، وألفية ابن معطي الجزائري، وألفيتي الحافظ العراقي في السير والأثر، و الجوامع في الأصول، وتلخيص المفتاح للقاضي القزويني، ورقم الحلل في نظم الدول لابن الخطيب، وأنه حفظَ الكثير من شعر أبي عبد الله بن خميس التلمساني شاعر المغرب والأندلس في المائة السابعة، وحفظَ معظم رسائل بلغاء الأندلس مثل ابن شهيد، وابن برد، وابن أبي الخصال، وأبي المطرف ابن أبي عميرة، وابن الخطيب.
ثم أسهَبَ أنهُ حفظَ صدراً من شعر المتنبي، وصدراً من شعر الطائيين، وحفظَ ديوان الحماسة، وحفظَ كثيراً من رسائل سهل بن هارون، وبديع الزمان وحفظَ كتاب كفاية المتحفظ للأجدابي الطرابلسي، وكتاب الألفاظ الكتابيه للهمذاني، وكتاب الفصيح لـ: ثعلب، وكتاب إصلاح المنطق ليعقوب بن السكيت، حفظَ كل ماسلف ولم يبلغُ مِنْ العمر إحدى عشرة سنة!
كنتُ استمعُ إلى الكاتب مصطفى وهو يُعددُ لي ما حفظ محمد البشير - لا ما قرأ - مِنْ كتبٍ ودواوين ووجهي كُلهُ متلون وقسماتي كُلها مُتَشَقْلِبَة، فرجل كَمحمد البشير مِنْ وفيات الستينيات، 1965 م تحديداً، وتعليمهُ الكثيف يُذَكرني بِعَهْدِ الأئمة والتابعين، و الأندلس الرغيد، فعندما سَمِعْتُ ما سَمِعُت احتقرتُ ذاتاً مجدتها ، حتى ادركتُ الفرق الشاسع ،فقد كنتُ أفخرُ بنفسي لأني عندما كنتُ بالخامس الابتدائي قرأتُ كتب ديل كارنيغي وفي السادس قرأتُ كتب المنفلوطي. أما في المرحلة الاعدادية فقد بدئت سلسلة توفيق الحكيم والرافعي وبعض من كتب العقاد ولخصتُ الموسوعة العربية الميسرة بجزئيها وكتب ودواوين من هنا وهناك وأنا لم أبلغُ المرحلة الثانوية بعد، وكنتُ سعيدة جداً ومفتخرة بتاريخي وكأني الفتاة الغريبة العجيبة بين الأنام، حتى سمعتُ سيرة محمد البشير الإبراهيمي.
"إيهاب مدحت" أحد الأشخاص الذينَ تعرفتُ عليهم في مجموعة سلام- الدوحة، فَعَلِمْتُ منهُ أنهُ بَدَءَ القراءة في كتب كارنيجي والفقي وغيرهم وهو في المرحلة الثانوية ، كانَ إيهاب فخوراً على حدِ قولهِ بتاريخهِ التليد حتى عَلِمَ عن تاريخي في القراءة، المُضحك إننا نحنُ معاً – وجميع من يندرجُ تحتَ المظلة نفسها – "عاملين ديك وسط فراخ " ، نُقارنُ أنفسنا بالفارغين ، الذين لا يقرؤون البتة ، فنكونُ نتيجة تلكَ المقارنة الجبابرة والعمالقة في الفكر والقلم ، وإذا أردتَ الواقع فالواقع ليس كذلك أبداً.
قرأتُ منذ فترة مِنْ الزمن مقالاً للشيخ علي الطنطاوي رحمهُ الله، فكانَ يتضمن سؤالاً عجيباً، إذ يقول إذا سألتكَ عن العصفور أصغير أم كبير؟ فإن قُلتَ صغير ، قُلتُ: أقصدُ نسبتهُ إلى النملة، . وإن قلتَ :كبير . قُلتُ : أقصدُ نسبتهُ إلى الفيل. فالعصفور كبير جداً معَ النملة وصغير جداً مع الفيل. المؤسف أن الغالبية منا يرى تاريخهُ تاريخاً تليداً وعطاءاتهُ وقراءاتهُ عطاءات متميزة وهي اليسيرة المتواضعة. السؤال الآن عندما أطلقتَ الحُكمَ على نفسك، أكانَ نسبةً إلى الفيل أم إلى النملة!
علمتني والدتي حفظها الله ورزقني بِرَّها، أن أقارنُ نفسي في العلومِ والتقوى دوماً بمن هم أفضل مني وأن أقارنُ نفسي في المال والجاه دوما بمن هم أقل مني شأناً وأسوء مني حالاً.لقد سمعتُ سيرة محمد بشير وأدركتُ الفارقَ الجَلِيّ، هوَ: حفظَ كلَ ما سلف من أمهات الكتب ولم يبلغ الحادية عشرة سنة من عمره ، نحنُ: قرأنا شذرات من الكتب ونحن في عمرٍ متقدمة، هوَ: حفظَ القرآن كُله ومفرداته وغريبة ولم يبلغ التسع سنين. نحنُ: لم نحفظ القرآن بعد ، هو: بلغَ العناء مَبلغهُ لنهلِ العلوم الغزيرة ، نحنُ نتلقى العلوم البسيطة ونحنُ على الأرائك. هو : الفخرُ لأولادهِ وأحفاده . نحنُ : نبحثُ عن الفخر في أسماء العائلات البَرّاقة والقبائل الممتدة الأصيلة.هو : سَطَّرَهُ حاضرهُ وهو موجود وتاريخهُ وهو في عداد الموتى، نحنُ: لا سَطَرَنا الحاضرُ ولا الماضي.
لَعَلَ نماذج محمد البشير الإبراهيمي عديدة على مر العصور، قارن نفسكَ بأيِهم أردت، لا يَهُم، الأهم أن تقارن نفسكَ في العلوم والتقوى بالفيل لا النملة، لتَتَقِدُ الهِمَمَ وتَغْلُوا العزائم وتَضَرِمُ الإرادة، فَتلكَ هيَ المُقارنة الحَقَّة.
اللهم اشغلنا بالعلم والإيمان .. اللهم آمين.